نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"نمذجة المباني معلوماتيا" - التقنية التي تمنح تراثنا فرصة جديدة للحياة, اليوم الاثنين 28 يوليو 2025 12:01 صباحاً
دائما يعود الناس إلى الأماكن التراثية على الرغم من اتساع مدننا، يهربون من صخب المدينة المزدحمة بالسيارات والضوضاء إلى الهدوء والدفء في المناطق التراثية. يلتقطون الصور أمام أبواب خشبية، ويشربون القهوة في بيوت طينية، ويشعرون هناك بأنهم أخف وأهدأ، وربما أكثر فهما لأنفسهم. هذه العودة ليست صدفة، إنها انعكاس لحاجة نفسية عميقة.
وبينما تزاحم العمارة المعاصرة مدننا، يتبادر إلى الذهن: كيف نحافظ على تراثنا وهويتنا المعمارية؟ كيف نوثقها ونبقيها حاضرة لا كمجرد ذكرى، بل كجزء من تخطيطنا الحضري؟ هذا الإرث المعماري الذي يلون مناطقنا الأثرية، لا يعيش طويلا إذا ترك وحده. الزمن لا يجامل، والترميم لا يحتمل العشوائية، والحفاظ على المباني التراثية بات اليوم علما قائما بذاته، لا مجال فيه للارتجال. هنا تظهر تقنية قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن هذا السياق، لكنها في الحقيقة تحمل وعدا كبيرا. إنها نمذجة معلومات المباني، أو ما يعرف اختصارا بـ"BIM". ما يميز هذه التقنية أنها لا تكتفي برسم المبنى، بل تبنيه رقميا، طوبة طوبة، ومعلومة معلومة. كل شيء محفوظ: المقاسات، المواد، التكوين، وحتى تاريخ الإنشاء ودرجة التلف. ما يعني أننا لا نوثق مبنى فقط، بل نصنع له حياة رقمية كاملة يمكن الرجوع إليها في أي وقت، وتطويرها أو عرضها أو دراستها.
وفي الوقت الذي تتسابق فيه الدول للحفاظ على هويتها العمرانية، يبدو أن BIM توفر طريقة عصرية لفعل ذلك دون أن نفقد أصالة التفاصيل. فالمشرف يملك نموذجا دقيقا للترميم، وأصحاب المصلحة يخططون للصيانة بتكلفة دقيقة، والباحث يعثر على مادة علمية جاهزة، والسائح يمكنه أن يتجول في بعض الأماكن التي لم يتم استعادتها وترميمها عبر الواقع الافتراضي (VR) أو الواقع المعزز (AR). لا يتوقف الأمر هنا. حين تتحول هذه البيانات إلى جولات افتراضية أو معارض تفاعلية، يصبح التراث جزءا من التجربة اليومية لا حكرا على المتاحف أو الكتب. كل بيت تراثي يمكن أن يصبح نافذة تعليمية أو محطة جذب سياحي أو حتى مشروعا استثماريا يخلق فرصا وظيفية لشبابنا.
مع التوجه الوطني للحفاظ على الهوية العمرانية في إطار رؤية 2030، فإن استثمار مثل هذه التقنية ليس رفاهية، بل خطوة ضرورية لإعادة الاعتبار لما تملكه مدننا من كنوز معمارية نادرة. ليس المطلوب فقط أن نحفظ الصور، بل أن نحفظ الجوهر: الطابع، القصة، الشعور، طريقة العيش وروح المكان أو ما يعرف بـ"التراث المعنوي".
ربما لا نستطيع أن نوقف الزمن لتجنب اندثار هذه المباني، لكننا نستطيع أن نوثّقه ونرسم خطة واضحة لصيانته وتشغيله. وتقنية BIM، بكل ما تحمله من دقة وتفاصيل، تمنحنا هذه الفرصة النادرة، أن نبقي الذاكرة حية راسخة كمعرفة، وتساعدنا في فهم تراثنا وتخلد رواية "السعودية العظمى".