نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
البيعة بين الإيمان والامتثال... قراءة في جوهر المادة (6), اليوم الأربعاء 2 يوليو 2025 02:37 صباحاً
في ضجيج الأحداث، حين تتنازع الأصوات، ويعلو كل منادٍ باسمه، تبقى البيعة في الفقه السياسة الشرعية عقدا ضامنا لوحدة الصف، ومانعا لتسلل الفوضى. ليست البيعة كلمة تُقال ولا توقيعا يُؤخذ من باب المجاملة، بل هي ميثاق روحي ونظامي، يتقاطع فيه الشرع بالعقل، والدين بالدولة، والمواطنة بالإيمان.
حين نقرأ في المادة (6) من النظام الأساسي للحكم والتي تنص:
«يبايع المواطنون الملك على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وعلى السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره» ندرك أننا لسنا أمام بند إداري، بل أمام إعادة إحياء لمنهج الصحابة - رضي الله عنهم - في تأسيس السلطة على أصلين: المرجعية الشرعية، والطاعة النظامية.
البيعة ليست تفويضا مطلقا، ولا صك إذعان. إنها بيعة على «كتاب الله وسنة رسوله»، أي إنها مشروطة بالبقاء في حمى الشرع، ومحدودة بإقامة الدين، لا تمنح لحاكم يحكم بالهوى، ولا تنتزع ممن أقام في الناس العدل والرحمة.
والطاعة لولي الأمر، كما قررها العلماء، تجتمع في قاعدة عظيمة «تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة»، فالناس لا تجتمع على إمام ليتسلط عليهم، بل ليقيم بهم مصالح الدين والدنيا. فإذا تحققت مقاصد الحكم: حفظ النفس والدين والمال والعقل والعرض... فقد وجبت الطاعة.
وليس في النظام السعودي من غموض، فقد رتب الحقوق والواجبات بما لا يخرج عن نصوص الوحي ولا يخالف قواعد الفقه. ومن ذلك أن الطاعة جاءت في العسر واليسر، لا انتقائية مزاجية، ولا خاضعة لانفعالات الإعلام وموجات التشكيك.
إن في كل زمن فتنة، تظهر فيها أصوات تزين التمرد وتسفه الطاعة، فتلبس الخروج لباس الإصلاح، وتحشي الرأي الشخصي بشعارات المصلحة.
لكن الفقهاء المعتبرين قالوا: الفتنة إذا أقبلت عرفها العلماء، وإذا أدبرت عرفها الجهلاء، والطاعة لولي الأمر من أعظم أبواب كفّ الفتنة، وقفل باب التشرذم، وإقامة الجماعة.
إن البيعة لا تجدد فقط في المناسبات، بل تجدد في القلوب كلما دعا داعي الفتنة، وفي المواقف كلما عصفت بالأمة عاصفة. هي إعلان انتماء لا لحاكم فقط، بل لنظام جامع، وهوية واحدة، ومرجعية لا تمزقها الشعارات.
وإن الدولة التي تحيا في ظل بيعة واعية، هي الدولة التي لا تهزمها المؤامرات، لأنها بنيت على سمع يُنصت لا يعاند، وطاعة تفهم لا تتبع عميانا، وولاء يعقل قبل أن يهتف.
وفي هذا تتجلى عبقرية النظام السعودي، حين جعل البيعة ميثاقا جامعا بين الشرعية الدينية، والهيبة السياسية، والهوية الوطنية... ليظل الوطن محصنا، والدولة راسخة، والقلوب مجتمعة تحت راية لا تهوي.
فيما سبق ذكره يفرض في سياقة (النظرة) الواعية في زمن تتزاحم فيه الأخبار وتتسابق فيه المنصات، صار كثير من الناس يتعجلون الفتوى في السياسة كما يتعجلون الرأي في الأقدار، يظنون أن الإدلاء برأي في شؤون الحكم أو الخوض في تفاصيل الدولة هو ضرب من الحضور أو الوعي.! بينما هو - في حقيقته - خروج عن صف الجماعة، وزعزعة لوحدة القرار، وتسليم غير واعٍ للخصوم المتربصين خلف الشاشات. إن الأمانة في الكلمة، خاصة حين تمس الأمن والسيادة، لا تقل وجوبا عن أمانة المال والعِرض، ومن لا يحسن التقدير فليحسن السكوت، ومن لم يُكلف بالحكم فليُعذر بعدم الفهم.
وقد جاء التنبيه الرباني في محكم التنزيل واضحا جليا، يقول الله تعالى: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. فهذه الآية دستور في التعامل مع الأخبار الكبرى، والقرارات السيادية، والمواقف المصيرية، فلا تذاع كل معلومة، ولا يُعلّق كل أحد، بل تُرد الأمور إلى الراسخين في الأمر، القادرين على الاستنباط والتقدير، والذين أوكلت إليهم الأمة مسؤولية القرار.
من أجل ذلك: كانت البيعة والطاعة لولي الأمر بابا من أبواب تحصين المجتمع من التهور، وردم الهوة بين الشعوب ومصادر القرار، وغلقا لمنافذ الفوضى التي تنشأ من المهاترات وتغذى بالشائعات.