نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
صناعة الهوية الشخصية: من الذات إلى العلامة التجارية, اليوم الاثنين 21 يوليو 2025 07:43 صباحاً
لم تعد الهوية مفهوما وجوديا يحوم في فضاء الفلسفة أو علم النفس كما كان يُصوَّر في بدايات القرن العشرين، بل غدت أحد أبرز الأصول القابلة للاستثمار في سوق مفتوح تحكمه قواعد المنصات الرقمية، وقيم الاقتصاد الرمزي، وتفضيلات خوارزميات الانتباه والظهور، وما كان يوما نتاجا لتراكم التجارب والخبرات بات اليوم يُصمَّم ويُدار ويُعدّ ويُحرَّر مثل مشروع تسويقي دقيق، إننا نعيش زمن العلامة الشخصية لا الذات المجردة، حيث الهوية تُؤدّى لا تُعاش فقط.
في هذا السياق، يُظهر تقرير HubSpot Research 2024 أن 70% من المهنيين حول العالم يعتبرون أن بناء الهوية الرقمية لم يعد خيارا تجميليا بل ضرورة مهنية لبناء الثقة، وتعزيز القبول، والتفوق التنافسي في سوق العمل، إن الانتقال من السيرة الذاتية الورقية إلى البراند الشخصي الرقمي لم يكن تطورا طبيعيا فحسب، بل هو انعكاس لتحوّل بنيوي أعمق في مفهوم الثقة المعاصرة، حيث لم يعد المحتوى وحده محور الجاذبية، بل أصبحت الذات القادرة على التأثير هي مركز الثقة ومحرّك القرار للمتلقي.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل تأسس على بنية اقتصادية نشطة، حسب تقرير Emeritus-2023، يُقدّر سوق خدمات بناء الهوية الشخصية الرقمية بما يفوق 3.2 مليارات دولار سنويا، تشمل خدمات الاستشارات، وإدارة المحتوى، وتدريب الظهور الإعلامي، وتحليل البيانات الشخصية، ولئن بدا الرقم ضخما، فهو لا يقارن بسوق التسويق عبر المؤثرين، الذي يتوقع أن يتجاوز 24.1 مليار دولار في 2025، بحسب Influencer Marketing Hub، ويُستخدم فعليا من قبل 72% من العلامات التجارية الكبرى في العالم.
لكن هذا النمو الاقتصادي مرتبط بتغيرات سلوكية واجتماعية عميقة، فبحسب تقرير أصدرته المجلة المعروفة( Global Banking & Finance 2025)، يُقر 49% من المستهلكين بأن قراراتهم الشرائية تتأثر بتوصيات المؤثرين، بينما يعترف 44% من الجيل Z (الجيل الرقمي أو جيل الإنترنت) أنهم اتخذوا قرارات شراء مباشرة بناء على محتوى صُنّاع هوية رقمية، مقارنة بـ 26% فقط من الجمهور العام، هذا يعني أن الهوية المؤثرة صارت قناة تسويقية فعالة تفوق في كثير من الأحيان الإعلانات التقليدية، وهو ما يعيد تعريف الحدود بين الذات والمنتج.
في قلب هذا المشهد، تبرز مخاطر مزدوجة، أولها: اختزال الإنسان إلى أداء دائم، فوفقا لمقالة تحليلية نُشرت في Psychology Today، يظهر ما يُسمى بالهوية المؤداة (Performed Identity)، أي تحوّل الفرد إلى نسخة محسّنة من نفسه يعرضها باستمرار على جمهور حي باستمرار، مما يؤدي إلى قلق الأداء الذاتي، وهو نمط نفسي يتسم بالانشغال المفرط بالصورة والانطباع، وانخفاض القدرة على التلقائية والصدق، هذا النوع من الهوية، برّاق من الخارج، هش من الداخل.
أما الخطر الثاني فيكمن في تسليع العلاقات، حيث تُقاس قيمتك المجتمعية ليس بمدى عمقك أو عطائك أو صدقك، بل بعدد المتابعين، والتفاعل، وانتشار المحتوى، وهنا تُصبح الهوية سلعة ضمن اقتصاد الانتباه او الظهور، ويُعاد توزيع المكانة الاجتماعية بناء على الأداء، لا الأصالة، وهذا النمط من التفاعل الرقمي يُضعف المعايير الأخلاقية التقليدية ويُعزز نزعات النرجسية، ويشوّه العلاقة بين الإنسان وذاته.
اللافت أن هذه التحولات لا تقتصر على الأفراد المشاهير، بل تمتد إلى الباحثين عن عمل، والمدافعين عن قضاياهم، وأصحاب المشاريع الصغيرة، بل حتى إلى العاملين في القطاع الحكومي، فقد أصبح إتقان بناء الهوية الشخصية شرطا ضمنيا لأي حضور مهني أو تأثير اجتماعي، وبات السؤال المطروح: من الذي يمكن الوثوق به؟ الجواب الآن غالبا: من لديه هوية رقمية مقنعة.
هذا التغير الجذري يضعنا أمام تحديات استراتيجية، ليس على مستوى الأفراد فقط، بل على مستوى النظم التعليمية، والإعلامية، والمهنية، فنحن بحاجة إلى مناهج تعليمية تدرب الشباب على إدارة صورتهم الرقمية بذكاء دون الوقوع في فخ الأداء الزائف، وإلى سياسات إعلامية تراعي أثر الهوية المؤداة على الصحة النفسية، وإلى خطاب ثقافي يعيد التوازن بين الظهور والجوهر، بين التأثير والحقيقة.
أخيرا، إذا كانت صناعة الهوية الشخصية قد تحوّلت إلى صناعة كبرى، فإن السؤال الأعمق لم يعد فقط: كيف نبني علامة شخصية ناجحة؟، بل كيف نحافظ على إنسانيتنا داخل هذه العلامة؟، إذ لا جدوى من هوية براقة إذا كانت فارغة من الصدق، ولا معنى لنجاح رقمي إن كان على حساب السلام النفسي، إن المستقبل ليس للذين يبدون جيدين فقط، بل للذين يبدون كما هم... ويبقون صامدين.
Drmutir@